اقتراحات للأسرة العربيّة لمواجهة فترة الأزمات والطوارئ

أ.د. خولة أبوبكر

يمرّ مجتمعنا والبلاد والعالم في أزمة صحيّة جادّة، قرأنا عن مثيلاتها في الماضي في كتب التاريخ وها نحن نعايشها في وقتنا الراهن.

تعامل الكثيرون مع الأخبار في المرحلة الأولى بإنكار ظهر في متابعة سير الحياة اليوميّة كالمعتاد.

بعد فرض القرارات تدريجيًا، وبعد تراكم أخبار المرض والموت في جميع دول العالم، فهم الناس معنى مصطلح “طوارئ”وأدرك المعظم خطورة المرحلة،ولكن ما زالت هناك أقلية تتعامل مع الأخبارعلى أنّها نتاج خطة مؤامرة.

تسبّبت قرارات الطوارئ بتغيير نمط الحياة اليوميّة للافراد والأسر. جميع طلاب المدارس وجميع طلاب الكليات والجامعات يدرسون عن بعد من البيت، وبعض الأهل يعملون من البيت،وفئة قليلةملزمة بالوصول لأماكن العمل. كذلك، تغيّرت على الناس أنماط قضاء وقت الفراغ ومنعوا من الخروج لأماكن الترفيه العامة. فكيف سوف تؤثر هذه الفترة على الصحّة النفسيّة للأفراد والأسرة وعلى العلاقات الزوجيّة؟

هذه الفترة هي فترةطوارئ وأزمة غير عادية،ومن ردود الفعل النفسيّة الأولى نشعر أنها تتسبب بالضغط والتوتر النفسي Stress. وعلى عكس ما يظن البعض،من المهم جدًا أن نشعر بالضغط النفسي في بداية فترة الطوارئ،وألّا نمنعه أو نكبحه، وذلك بهدف استنفار ردود فعلنا الصحيحة والبنّاءة.

هناك نمطان للتعامل؛ أحدهما سليم، وهو مبني من ثلاثة ردود فعل متعاقبة وصحيّة، أمّا النمط الآخر فسلبيّمبنيّ من نوعَيْن من ردود الفعل كليهما غير صحيّ وضارّ للأمد البعيد.

النمط الأوّل:

المرحلة 1: “اِهجم أو اُهربFight or Flight

يشعر الفرد،في ردّ الفعل الأول للأزمات، بطاقة كبيرة تجعله يهجم على المشكلة أو يهرب منها Fight or Flight. في مرحلة “اِهجم أو اُهرب” (أو كرّ وفرّ)، تكون بعض الأسر قد تعرّفت إلى وجود فيروس الكورونا من خلال إصابة أحد أبنائها، وعليها مواجهة هذه الإصابة بواسطة “هجوم سليم حتى تغلب المرض”. وفي حينتتعرّف أسر أخرىإليه من خلال وسائل الإعلام فتعمل كلّ ما في وسعها حتى تهرب من الخطر. ردّ الفعل الأول يجب أن يكون فوريًا وناجعًا. من الضروري أن نترجّم هذه الطاقة على مستوى العائلة إلى تخطيط سريع للوالدين لما يريانه الأفضل بالنسبة لهما كزوجين، وبالنسبة للعائلةككل، وذلك بواسطة: إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة من جديد، توزيع الأوقات بما يتلاءم مع الوضع الجديد، فرض نظام ماليّ جديد، تبنّينشاطات فردية وأسريّة جديدة، توزيع أولويات العائلة ما بين العناية بالأفراد المعافين والأفراد المرضى.

في هذه المرحلة، تظهر طبيعة القيادة الوالديّة والتعاون الزوجي والإدارة الأسريّة السليمة.

هذا هو الوقت أيضًا، لجميع الأهل الذين لم ينتبهوافي السابق إلى أنّ الوالديّة تتطلب قيادة،لكي يتجندّوا ويقوموا بتنفيذ دورهم فيالشراكة الوالديّة.

إضافة لما ذُكر، هناك قلة من الناس يكون رد فعلهافي المرحلة الأولى للطوارئ هوالجمودالتام freeze.لا تفعل هذه الفئة شيئا لمدة طويلة في محاولة منها لكسب الوقت حتى تمرّ العاصفة. عمليًا، لا تخدم هذه الآلية أصحابها دائمًا، بل تجعلهم يتعرّضون للخطر أكثر من غيرهم. هذه الفئة بحاجة لتوجيه خارجيّ بسيط، وواضح، ومتعاقب وعمليّ حتى تساعدهم على الانتقال من حالة الخطر لحاية الحماية.

من هنا، يجب الانتباه إلى أنّهمن الممكن أن تكون داخل الأسرة الواحدة آليات مختلفة لمواجهة الطوارئ والخطر لدى أفراد الأسرة. مثلًا، يجب أن لا يلومالزوجان بعضهما بعضًا، بل أن يتفهّما طبيعة اختلاف ردّ الفعل الأول لكل منهما وأن يصلاسويًا لتبنّي نمط الحماية والأمان الضروريان للأسرة.

المرحلة 2: التحكم في الضرر Damage Control

يبذل الناس قصارى جهدهم للمحافظة على نمط الحياة اليوميّة. ولكن الأصحّ في فترة الطوارئ والأزمات أن يبذلوا قصارى جهدهم لترميم نتائج الأضرار ولمنع الضرر التالي. فمثلا، إذا أصابت العدوى أحد أفراد الأسرة، يجب عندها أن تصبّ جهود الأسرة في خدمة المريض وعزله ومنع العدوى عن باقي الأسرة، متكبّدة كلّ الصعوبات المرافقة لهذا الهدف. وإذا خسر الأولاد أيامًا تعليميّة، عندهايجب ضبطهم في نظام دراسة يوميّ يتابعون فيه تعليمات الدراسة عن بعد، إضافة إلى تحفيزهم على المطالعة ولعب ألعاب تربويّة فيها تطوير لمفردات لغة الأم واللغات الأخرى. بالإمكان فعل كلّ هذا بطرق تعليميّة ترفيهيّة كذلك؛ مثل متابعة أفلام عربيّةباللّغة الفصحى، أو أفلام أجنبيّة من دون ترجمة، أو حفظ أغانٍ وترجمتها وغنائهابلغتها الأصليّة وباللغة العربيّة، وما شابه من أفكار تخفّف منالضرر الحاصل وتمنع الضرر المحتمل التالي.

حتى يصبح الجميع شركاء في هذه المرحلة، من المهم جعلهم شركاء في المعلومات بهدف تراكم المعرفة. إن تلّقيالمعلومات الدقيقة والسليمة من خبراء، حتى عندما تثير معلوماتهم الفزع بسبب مدى الخطر، هو مفيد جدًا للتحكم في الضرر. إذ يجب علىالوالدين، اللذين مرض أحدهما، مثلا، أن يعرف كلاهما أبعاد عدم عزل المريض ومدى الضرر الذي سوف يتسبّب به لجميع أفراد الأسرة إذا لم تتوفر لديهما المعلومات الطبية الموثوقة.تساهم المعلومات وتراكم المعرفة في تطوير استراتيجية ردّ فعل لدى العائلة تكون بها هي المتحكمة في الضرر التالي، ويكون بإمكانها منعه أو الحدّ من أذاه.

في أزمة انتشار وباء الكورونا، من المهم أن يفهم الوالدان المعلومات عن الفيروس وأن يُناسبا نقل هذه المعلومات للمرحلة العمريّةلكلّابن وابنة. من المفيد لهما، أحيانًا، الاستعانة بالأفلام الوثائقيّة التي أصدرتها وزارة الصحة وأن يشاهدوها معا، وأن يتوقّفوا عند التفاصيل بهدف الشرح والتذويت، وبذلك بواسطة بناء خطة وقاية سلوكيّةتحمي أفراد الأسرة. في حال خطر فقدان أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء، من الأفضل التوجّه لخبير بهدف الحصول على مشورةلتحضير القاصرين لتلقي الخبر ولمعايشة الفقدان وهضمه لاحقًا.

تحتاج هذه المرحلة لوقت حتى يتبنى الجميع السلوكيات الجديدة. وعليه، يجب أن تتفق الأسرة على أدوات مناسبة لها للتذكير والتنبيه، لصالح الفرد ولصالح الأسرة. بالإمكان تبني طرق فكاهية لهذا، مثل الاتفاق على غناء أغنية معيّنة عند حدوث مخالفة للتعليمات، أو القيام بحركة مضحكة للفت النظر وما أشبه. فليس لزامًا أن نتّبع تعليمات جادة فقط بتذكير عابس. يبقى دور الوالدين كموجهين ومديرين لفترة الطوارئ هام جدًا وعليهما تذكير باقي أفراد الأسرة بالتعليمات يوميًا،أو عدّة مراتباليوم. وفق ظروف كلأسرة.عندما يتأكد الأولاد من قدرة الوالدين على إدارة الأُسرة بحكمة ودفء في فترة الأزمات سيشعرون بالأمان، بغضّ النظر عن أصابتهم بالفيروس أو نجاتهم منه.

3. مرحلة التشافي Recovery

يحتاج الفرد، كما تحتاج الأسرة، في فترة التشافي من التوترStressأثناء الأزمات أن تخلد للراحة أكثر من الفترات العادية لأنّ هذه حاجة بيولوجيّة وعاطفيّة في نفس الوقت. إذ يحتاج الأفراد لساعات نوم أكثر من المعتادوتحتاج الأسرة للبقاء متقاربة سويًا،من دون  الإنشغال ببرامج “تفعيليّة”،بحيث يكون كلّ الهدفهو أن يجلس أفرادها جميعًا متلاصقين لساعات، يتسامرون، ويضحكون، ويشتركون في قصص وتجارب وما أشبه. مثلما يعالج النوم الجسم المريض، تعالج هذه اللقاءات الأسريّة العلاقات التي تباعدت، والزيجات التي بهتت وفتر حماسها. حتى تنجح هذه المرحلة في تحقيق أهدافها، يجب ألّا ترافقها إساءات مقصودة أو فوريّة، والتي تسبّب شعورًابالتنمر أو بالعنف، حتى لا تتقهقر الأسرة وتعود للمرحلة الأولى.

الأشخاص الذين لا يواجهون الأزمات بالطريقة السليمة المقترحة أعلاه، يتبنون الأنماط التالية:

ليس المقصود هنا التكيّف الإيجابي البنّاء، وإنما يعني المعايشة والسماح للتوتر بالسيطرة على ردود فعل الفرد بدل أن يديره الفرد بطريقة مدروسة. من لا يسير في مسار المراحل الثلاث السابقة، يجد نفسه وقد خارت قواه، انخفض مستوى أدائه، وبدأ يشكّ في قدراته، وفقد القدرة على النوم المتواصل، وفقد -أو زاد- وزنًا من دون تخطيط وصار يعاني من بلادة تجاه مشاعره الخاصة وتجاه مشاعر الآخرين. غالبًا ما نلاحظ سيطرة هذه المرحلة،مثلًا،على اللاجئين الذين يعيشون لفترات طويلة جدًا في مخاطر متعددة ومتراكمة، الكثير منها مفاجئ، ولا يمكنهم إدارة حياتهم كما يشاؤون ولا التمتّع بمرحلة أمن وأمان. لذا، يتسبّب هذا النوع من التكيّف، بما فيه من صراع بقاء متواصل،بأذى للصحّة الجسديّة والنفسيّة والعاطفيّة للذات وكذلك بأذى تجاه الآخرين. ففي الكوارث طويلة الأمد، نشهد الناس يسيرون أمام شخص تحت الخطر أو يحتضرفلا يحاولون مدّ يدّ العون له لأنّالمشاعر تكون قدتبلّدت بسبب معايشة المرحلة. وحتى نترجم هذا للواقع الذي نتوقعه من أزمة فيروس الكورونا،فمن الممكن أن يؤدّي الاستخفاف بالفيروس وإصرار بعض الناس على متابعة حياتهم اليوميّة، وكأنّ المرض لا ينتشر في بيئتهم، إلى أن يخسروا عددًا كبيرًا من الأقارب والمعارف وأن يتابعوا حياتهم بطريقة آلية فيها فراغ عاطفي وتخلو من المشاعر.

تحوي الثقافة العربيّةالتوجّه القيادي الحكيم الذي يجعل الإنسان رافضًا لأذى نفسه والآخرين وتحوي أيضًا الخنوع والتبعية للقطيع،والتي يشير لها المثل “حط راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس”. يحاول هذا النمط من التعامل مع الأزمة أن يقنع الناس بالاستسلام لأنّ”ما باليد حيلة” وأنّما عليهم إلّا أن يقبلوا الوقوع في الخطر وفي المرض. ليس هذا بالطبع نمط التعامل الصحيّ والصحيح لإدارة الأزمة، حيث أنّهناك دائمًا من يمرض وهناك دائمًا من يعرف كيف يحمي نفسه أو أن يعالج نفسه بكلّ ما أوتي من أدوات، حتى التعافي وجلاء الخطر التام. ليس من الحكمة زيارة القريب المريض والإتّكال على الحظ بأن العدوى لن تلحق بأي شخص، كما ليس من الحكمة عدم اتّباع جميع التعليمات من وزارة الصحة بخصوص منع انتشار الوباء بين الأفراد، بمن فيهم أفراد الأسرة الواحدة.

يشير هذا السلوك إلى نوع من الإنكار الخفي، وفي نفس الوقت، تبقى المعلومة حول مخاطر المرض تؤرق مضاجع من يستهتر بها.لذا، يكون الشعور السائد لديه “التوتر والأرق والقلق”. فهذا الاختيار ليس بالحكيم ولا بالأسلم على مستوى الصحة الجسديّة أو النفسيّة أو العاطفيّة أو الأسريّة.

من لا ينتبه سريعًا -وقبل فوات الأوان- لوجوده في المرحلة السابقة، سيشعر بالاكتئاب والإنهاك التام وسيشعر معهمابفقدان الحيويّة (طعم الحياة).

حتى لا يصل أي فرد -في فترات الأزمات- لمرحلة الاستنزاف، من المهم أن يدير فترة الأزمة بحكمة كما هو مقترح أعلاه.

من المهم أن يخطّط الفرد مع من يمكنه أن يسانده لما هو سليم صحيًا ونفسيًا ولما هو أفضل للفرد، وللأسرة وللبيئة.

تقتضي الحكمة أن يعرف الفرد ممن يأخذ المشورة ولمن يصغي، كما تقتضي أن يرتّب علاقاته كما يرتب أغراضه عند حلول الأزمة.

ليس من الضرورة أن ينهك الفرد نفسه في الأزمات ولكن من الضرورة أن يخطّط بحكمة وبطريقة سليمة وبعد المرحلة الأولى، التي تحتاج لتحرّك سريع، عليه أن يعمل شيئًا ما سليمًا كل يوم، وأن يسائل نفسه حول هذا العمل. بالإمكان التعامل مع معيار السلوك السليم باعتباره:السلوك الجيّد للفرد للأسرة وللبيئة.

من المهم أن تبحث كل أسرة عن سبيل لما نسميه “هداة البال”،أيّ الصحة النفسيّة الشموليّة. كما يجب أن يتوفر هذا على ثلاث مستويات: الأسريّ، الزوجيّ والفرديّ، وعلى هذا الشعور أو الحالة أن يكون ثابتًا من حيث الإطار، ومتجددًا ومتنوعًا من حيث المضامين. أمّا الأفراد الذين ليس لديهم شركاء زواج، فبالإمكان تعويض هذا مع الأصدقاء.

الهدف، إذًا، هو معرفة إدارة فترة التوتر وعبورها بسلام جسديّ ونفسيّ يبني الذات ويعيد توطيد العلاقات الزوجيّة والأسريّة.

تحتاج حالة الأسر متعدّدة المشاكلوذات العلاقات الشائكة المستدامة إلى تطرّق في مقال منفصل آخر. 

ملاحظة:

بالإمكان تتبع منشورات “جمعية العلاج الزوجي والأسري للمعالجين الفلسطينيين في إسرائيل” على صفحة الفيسبوك ” جمعية العلاج الزوجي والأسري للمعالجين الفلسطينيين في إسرائيل” أو على الرابط https://www.facebook.com/zawaj.usra/


[1] بروفيسور خولة أبوبكر باحثة ومحاضرة في أكاديميّة القاسمي، ورئيسة جمعيّة العلاج الزوجيّ والأسريّ للمعالجين الفلسطينيّين في إسرائيل.